تأملات في سورة " البروج "
صفحة 1 من اصل 1
تأملات في سورة " البروج "
تأملات في سورة " البروج " رقم 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ{1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ{2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ{3} قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ{10} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ{11} إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ{12} إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ{13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ{14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ{15} فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ{16} هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ{17} فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ{18} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ{19} وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ{20} بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ{21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ{22}
شرح الغريب :
الْبُرُوجِ : هي منازل الشمس والقمر والكواكب التي وضعها الله في السماء .
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ : هو يوم القيامة ؛ لأنه محدد بموعد لا يتخلف عنه .
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ : أكثر المفسرين على أنّ الشاهد هو يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة .
والأولى القول بظاهر اللفظ بأنّ الشاهد: عام في كل من يشهد. والمشهود : عام في كل ما يشهد عليه .
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ : دعاء عليهم بالهلاك ، والأخدود هو : الحفرة التي حفرت وأضرمت ناراً لتعذيب المؤمنين وفتنهم عن دينهم .
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ : النار : بدل من الأخدود والمعنى: أنّ الأخدود المشار إليه عبارة عن حفرة مضرمة بنار توقَّد !
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ : وصف لأصحاب الأخدود الكفرة بأنهم كانوا على شفير الأخدود يفتنون الناس عن دينهم, ويستمتعون بتعذيبهم!.
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ : أي أنَّ هؤلاء الكفار الظلمة كانوا شهوداً على ما يفعلون بالمؤمنين راضين به .
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ : أي ما أنكروا منهم من ذنب إلا إيمانهم بالله .
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ : امتحنوهم وآذوهم في دينهم . وقيل : أحرقوهم كقوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } الذاريات ( 13) . أي : يحرقون .
هداية الآيــــــــــات :
في هذه الآيات العظيمات المخيفات ، يقسم الجبار جلّ جلاله بالسماء الشاهقة ذات البروج العالية الدالة على عظمته وقدرته ، وبيوم القيامة الدال على حكمته وعدالته ، وبالشاهد والمشهود بأنّ الهلكة والنقمة واقعة على أصحاب الأخدود الذين أضرموا النيران وامتحنوا العباد رغبة في صرفهم عن التوحيد إلى الإلحاد ، ومن العبودية إلى الكفر والشرك .
وقد اختلف العلماء في أصحاب هذه القصة ومن يكونون على أقوال لعلّ من أظهرها ما رواه مسلم عن طريق صهيب الرومي – رضي الله عنه - في قصة الغلام والساحر والملك والشهيدة ، وأيا كان الأمر فالعبرة بمضمون القصة لا في تحديد أشخاصها ولذا أبهم القرآن الأسماء والأشخاص والزمان والمكان في هذه الحادثة المأساة !
قوله : ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ) قسم بالسماء العظيمة الشاهقة الطول والارتفاع ذات البروج المتعددة والمنازل المتنوعة .
والقسم بالسماء له مذاق خاص ذو أثر في النفس عجيب لمن تأمل فليس في الكون المشاهد المحسوس آية أكبر منها, ووالله لو تأمل الناس في هذه الآية حقّ التأمل لآمنوا وأذعنوا للواحد القهار ، وحسبك منها هذه الحقائق :
1- أنّها محمولة رغم سعتها العظيمة وثقلها وكثافتها بلا عمد قال الله تعالى : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } النبأ (12) فهي شديدة ثقيلة ومع ذلك مرفوعة بلا عمد ! وقال تعالى : {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } الرعد (2) .
2- أنّها محمولة بالقدرة الإلهية الباهرة ، وممسوكة بالإرادة الربانية المعجزة : { وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الحج (65) .
3- أنه مع عظمة هذه السماء وقوتها وشدتها واتساعها ، فإنها ليست واحدة بل سبع فأي قدرة هذه التي أوجدت كلّ هذه السموات في يومين اثنين مع قدرته على خلقها في لمحة بصر ؟!
4- أنّ السماء مع كل ما ذكرناه متصفة كذلك بالإتقان وجمال الصورة وخلوها من العيب ، أو النقص { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ } الملك (3، 4) .
وبالجملة فإنّ السماء التي ذكرها الله في كتابه في عشرات المواقع وما زلنا نبصرها صباح مساء هي آية عظيمة باعثة على اليقين والإيمان لمن تدبر وتأمل !
ولو تأملها الظلمة والطواغيت وعرفوا عظمة الصانع ، وقدرته الفائقة في مقابل عجزهم وضعفهم لما تجرأوا على سفك الدم الحرام أو فتن العباد عن دينهم, ولعل هذا من مناسبة القسم بهذه الآية في معرض سوق قصة أصحاب الأخدود .
( وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) : اليوم الموعود هو يوم القيامة بلا شك ومناسبة القسم به في معرض سوق هذه القصة كذلك ظاهرة واضحة ذلك أنّ يوم القيامة هو موعد القصاص العادل من أصحاب الأخدود وغيرهم؛ فإنّ أصحاب الأخدود في حقيقة الأمر لم يذكروا إلا كمثال للطغيان البشري الأرعن ولم ينوه بذكرهم إلا كأنموذج عابر لحالة الاستبداد الذي يمارسه الكثيرون من العتاة والجبابرة على مرّ الدهور والعصور, وإلا فإنّ أصحاب الأخاديد المشابهة وسدنة الظلم والجبروت كثيرون ، متواجدون في كلّ زمان! .
وهؤلاء جميعهم حسبهم ذلك اليوم الموعود حيث توضع الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئاً .
وهؤلاء جميعهم حسبهم الحكم العدل سبحانه حيث يقتص من كل ظالم وينتقم من كل جبار عنيد .
وأما القسم بالشاهد والمشهود فلعل مناسبته ولطيف ذكره هو: أنَّ محاكمة أصحاب الأخدود ومحاسبتهم ، والاقتصاص منهم سيتم في هيئة تامة من العدالة حيث الشاهد على جريمتهم حاضر, والمشهود عليه أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره وهذا ما يرجّح القول بأنّ (شَاهِدٍ ) يعمُّ كل شاهد بلا تحديد ( مَشْهُودٍ ) كل ما يشهد عليه دون تخصيصه بأمر ما .
( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} )
وفي هذا المقطع من السورة يعرض القرآن الكريم في لمحة خاطفة ملخصاً عابراً ، لأحداث القصة مكتفياً بأبرز ما فيها وهما عنصران :
1- أن عذاب أصحاب الأخدود للمؤمنين كان قاسيا لا يطاق وهو الإحراق بالنار .
2- أنه لا سبب لهذا العذاب إلا الإيمان بالله العزيز الحميد .
وكما تقدم – قبل قليل – فإنّ القرآن ذكر القصة كأنموذج لكل الحالات المشابهة لأخذ العبرة والعظة ، وتسلية المبتلين بهذه القصة ، وتوعد المجرمين ، بذات الوعيد ، وبقدر الجريمة !
فالمقام ليس مقام سرد أو استيعاب لكل حوادث التاريخ – وما أكثرها - ممّا قد يفوق جريمة هؤلاء بمراحل وإنما هو مقام تذكير ووعظ بما يؤدي الغرض وكفى !
وفي العصر الحديث كثر أصحاب الأخاديد بحيث تنكسر الأقلام وتفنى مئات الصحف قبل أن تستوعب بعض جرائمهم .
فجرائم الصليبيين بقيادة امبراطورية الشر ، وحاملة لواء النصرانية أمريكا فاقت كل تصور ، وتجاوزت كل حدّ .
لقد صبت هذه الدولة المجرمة جام نيرانها ودكت بطائراتها العملاقة وقنابلها التي تبلغ زنة بعضها قرابة العشرة من الأطنان أرض أفغانستان المسلمة, وغزت بجحافلها أرض العراق بعد أن أفرغت فوق حاضرته وباديته مئات الألوف من القنابل الفتاكة التي لا تعرف التمييز بين الكبير والصغير والذكر والأنثى؛ بل دكت المستشفيات على رؤوس المرضى ولوثت المياه وقطعت خطوط الكهرباء والهاتف وأشاعت الرعب والهلع وسمحت بالنهب والسرقة وانتهاك كل مُحرّم وممنوع !
ومثلها الدبُّ الروسي المتوحش ، والذي ظل عقداً من الزمان يمارس أبشع العدوان والبغي فوق أرض أفغانستان وخلّف ورائه ملايين القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعوقين ولا يزال يمارس نفس الجريمة فوق أرض الشيشان ، وحسب القارئ أن يعلم أن ما ألقته روسيا على أرض الشيشان من القنابل والنيران يفوق عشر مرات حتى الآن ما ألقاه الحلفاء على ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية !!
وما يفعله اليهود فوق أرض فلسطين برعاية الأمم الصليبية الكافرة وبرئاسة أمريكا وحليفتها انجلترا غير خاف على كل متابع لمسلسل البغي والظلم المتتابع الحلقات منذ ما يقرب من ستين عاماً !
ومثل ذلك ما يمارسه الهندوس الوثنيون فوق أرض كشمير وغيرها كثير ناهيك عن محاكم التفتيش التي هي واحدة من أبشع ما لدى الغرب الصليبي من حب الاستبداد والطغيان ضد الشعوب المسلمة خاصة وغير المسلمين عامة! .
فأي مقارنة إذاً بين تلك الحادثة الصغيرة التي تولى كبرها أصحاب الأخدود وبين هذا العدوان الشامل والحروب الشعواء التي لا يعرف لها نظير عبر التاريخ !؟
ومن عجب أنّ سبب التعذيب واحد وهو الإيمان بالله العزيز الحميد ، فإنّ هؤلاء الطواغيت الحمقى لا يروق لهم أبداً أن يفرد مالك الملك ،ومبدع الكون بالتوحيد والعبودية ، وليتهم إذ امتنعوا عن التسليم لله بحقه ، بالوحدانية والإلهية تركوا غيرهم يختارون لأنفسهم ما يرونه صواباً , ولكنهم أبو إلا أن يصدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجا!
وقريب من العذاب بالنار والتقتيل والتشريد اضطهاد الفئة المؤمنة من خلال التضييق عليهم في أرزاقهم وفصلهم من وظائفهم ، وبخسهم حقوقهم بسبب إيمانهم واعتقادهم .
( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
إنّ هذا الإله الذي يُعذّبُ أولياؤه ويُضطهد أحبابهُ يستحق بجدارة ذلك الإيمان العظيم الذي اعتنقه سائر المعذبين فهو مالك الملك ، وخالق الكون فأي شيء ينقمه أصحاب الأخدود ، وأمثالهم ممّن آمن به وأذعن له وخضع لكبريائه ؟!
وفي الآية تهديد لكل صاحب إخدود من هؤلاء وذلك من وجهين بل من وجوه .
1- أنّ الله تعالى له ملك السموات والأرض, وهذا يعني أنّ هؤلاء المجرمين المستبدين الممارسين لكل طغيان وصلف مملوكون لله تعالى وتحت تصرفه وفي محيط قبضته فأين يذهبون ؟ وإلى أين يفرون ؟
2- إذا كان هؤلاء يعيشون في ممالك الله الواسعة فكيف يتصرفون في أرض الملك بغير إذنه بل يفعلون خلاف أمره فما ذا عساها تكون العاقبة ؟ !
3- وقد ختمت الآية بقوله : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وهذا تهديد واضح من وجهين كذلك :
أ- أنّ الله شهيد على كلِّ شيء ، وليس على حادثة الأخدود فقط .
ب - أنه شهيد بنفسه سبحانه وهو أعظم شاهد
????- زائر
مواضيع مماثلة
» تأملات في سورة " البروج " 2
» تأملات في سورة العنكبوت
» تفسير سورة البقرة ايه 29
» زيدان يعمل في ريال مدريد "مجانا"
» اول مواجهة سعودية يابانية في "ابطال اسيا"
» تأملات في سورة العنكبوت
» تفسير سورة البقرة ايه 29
» زيدان يعمل في ريال مدريد "مجانا"
» اول مواجهة سعودية يابانية في "ابطال اسيا"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى